في حضن جبل سنجار بالعراق، تنبت قرية من بقايا حجارة طينية كانت في وقت سابق منازل عائلات آمنة في بيئتها، ترعى الغنم وتعتني بالأرض والأشجار المثمرة والخضروات.
وفي يوم من عام 1975، نامت العصافير على أشجار التين ولم تستفق، وديك القرية لم يصدح معلنًا بزوغ الصباح، فقد أُجبر أهالي قرية "طيرف" على الرحيل منها إلى مجمعات سكنية لا تشبه رائحة أرضهم.
كانو قريةً من بين أكثر 155 قريةٍ إيزيدية، جُرفت منازلها وأُحرقت مزارعها.
قد يموت الأمل، لكن الحياةَ ستجد شقًا في صخرةِ جبل أو مأساة، كتلك التي لحِقت بأهالي سنجار حين هجم داعش على القضاء عام 2014، وبينما الأهالي في هروبهم الكبير، قرر أهالي "طيرف" الهروب بالعودة إليها.
صاح الديك من جديد، وفاحت رائحة التنور، وارتدت القرية ربيع عمرها الجديد.
حواس الياس، أحد أهالي "طيرف" يُخبرُ قصّة رحيل أهل القرية وعودتهم إليها، قائلًا: "في 1975 جرى تهجيرنا من قبل حزب البعث، دمّروا كل القرى الجبلية شمال وجنوب جبل سنجار، وتمَّ إسكان الأهالي في المجمعات السكنية، وذهب بعض أهالي قرية طيرف إلى مجمعيّ بورك ودوهلا، وبقيت هذه القرية خالية من السكان من 1975 وحتّى 2014".
وتابع قائلًا: "وفي الـ 2014 بعد محاولة إبادة الأيزيدية، عاد الأيزيديون إلى هذه القرى وحملوا أسلحتهم وصمدوا بوجه العدو".
وأكمل قائلًا: "في الثالث من أغسطس 2014، عدنا إلى القرية والحياة مستمرة".
وعن ما إذ دخل داعش قريتهم، ردَّ حواش الياس، قائلًا: "هذه القرية؟ داعش لم يدخل القرية، عودتنا كانت صعبة جدًا، هناك قول عندنا هو "الله لا يشوّف أشجار وأحجار الجبل الإبادات" لأنَّ الإبادات صعبة جدًا وستدمرها بالكامل".
وأضاف قائلًا: "تعرّض أهلنا إلى الإبادة لكنهم كانوا أصحاب إرادة وصمدوا، ودافعوا عن عقيدتهم وأرضهم وشرفهم، وضحّى المئات بأرواحهم حتى يحافظوا على عقيدتهم، وبقوا في الجبل وبنوا القرية، وهم الآن يعيشون حياتهم".
ويروي مختار قرية "طيرف" خدر قولو، قائلًا: "كنا في مجمع دوهلا قبل مجئ داعش وتحولنا إلى هنا بعد دحر داعش، وبنينا القرية وأصلحنا الكهرباء وزرعنا الأشجار وأمورنا جيدة الحمدالله، أخذونا آنذاك إلى المجمعات وبنينا منازل طينية وبقينا هناك حتى هجوم داعش".
عندما عاد أهالي "طيرف" إليها كان الجيل الذي هُجّر منها قد شاب وكثيرًا منه قد رحل عن هذه الدُنيا، لم يكن شبابها يعرفون أملاك أبائهم ومنازلًهم السابقة، لكن من بقيَ على قيد الحياة من شيّابها، كانت "طيرف" محفورة في ذاكرتهم بكل تفاصيلها، ولم يكونوا بحاجة إلى سندات الملكية التي فقدت أصلًا، كانوا دليل شبابها وأطفالها العائدين. هنا كان لنا بيت، وهناك بستان وشجرة تين.
وعن تفاصيل العودة، يقول حواس الياس: "عندما عدنا لم نكن نعرف القرية، لكن آباءنا كانوا معنا وكانوا يعرفون القرية، فكما يقول المثل، "العلم في الصغر كالنقش على الحجر"، أهلنا كانوا قد عاشوا طفولتهم هنا وكانوا يعرفون القرية بشكل جيد، ويتذكرون كل أحداث طفولتهم والأعمال التي قام بها آباؤهم، فبأحاديثهم جئنا إلى القرية ورأينا منازلنا".
ويتابع المختار قائلًا: "سندات العثمانيين إن وجدت عند أحدهم، ستظهر أنَّ لدينا قطعة أرض فيها، وهي أرض صخرية، فأنا لم أشاهد أي سند، لكن كنا نعرف منازلنا وقضيتُ شبابي هنا، فهذه القرية التي تراها أعرفها شبرًا شبرًا، وأعرف لمن يعود كل منزل فيها".
ظلّ "طيرف" يستظل أهاليها من جديد
مع عودتهم ليحتموا في ظل "طيرف" حتى لو كان سقفُهم خيمةً لا تقيهم الحرّ ولا البرد، قرر الأهالي بناء قريتهم من جديد، كانت النسوةُ السندَ في البيتِ والأرض، وشمّرَ الرجالُ عن سواعدهم ليبنوا بيوتهم وحياتهم الاجتماعيةِ من دون مساعداتٍ دوليةٍ أو محلية.
ويشير مختار القرية خدر قولو، قائلًا: "كنتُ في دوهلا، وفرّينا إلى هنا مع أطفالنا، وسكنّا تحت النايلون حتى فرج الله فرجة الخير، تمَّ التصدي لـ 17 هجومًا على فزار شرفدين بإرادة الله، وبعد سقوط داعش بدأنا في بناء القرية، وزرعنا الأشجار وحفرنا الآبار وأصلحنا الكهرباء والآن أمورنا جيّدة".
وعن الصعوبات التي واجهت عودتهم يقول حواس الياس: "تحدينا صعوبات الحياة، تحدينا كل هذه الأشياء حتّى تبقى الإيزيدية، وقلنا إما سنموت بشرف أو سننتصر بشرف والحمدالله، وبوجود الشباب استطعنا أن نصمد في كل مكان، فمنّا من قام برفع السلاح ومنّا من قام برفع القلم، فلم يقصّر أي أيزيدي وأرسل سلامي للإيزيديين جميعًا أينما يكونون".
وعن التغييرات التي أحدثوها في القرية، يقول المختار: "أصلحنا الكهرباء وحفرنا الآبار وبنينا المنازل وساعدنا بعضنا البعض، فمثلًا هذا المجلس الذي قمتُ بتشييده لم أصرف عليه أكثر من أي فرد في القرية فجميعهم ساعدوني على بنائه".
كيف هي علاقة إبن جبل سنجار بأشجار التين؟
علاقة إبن جبل سنجار بأشجار التين كعلاقته بالجبل أو ربما هي علاقةٌ ثلاثيةٌ يقودها جبل سنجار، وتسقيها يد فلاح عراقي أيزيدي فتنبت له تينًا ذاع صيته، وتسنِده الشجرة في مورد رزقه، كما يسندُ جدار حقله بحجر سنجاري مرّ عليه التاريخ وبقي هو متجذرًا في مكانه.
وأكّد حواس الياس على أهمية الشرف في حياة الإنسان، قائلًا: "حينما عدنا إلى هنا، ليس هناك شيء أغلى من الشرف في حياة الإنسان، تأسسفت كثيرًا على الضحايا الأيزيديين، وكنا نرى وكان كل العالم يرى ما حدث لقرى كوجو، وقني، وحردان، وكلّ المناطق الأيزيدية. لم نكن نستطيع فعل أي شيء، فالمثل العربي يقول الكثرة تغلب الشجاعة، وحمل أهلنا السلاح وصمدوا شمالًا وجنوبًا، وقمنا بما نستطيع فعله، وما لم نفعله لم يكن في مقدورنا فعله".
وعن رسالة مختار قرية "طيرف" خدر قولو للعالم بعد كلّ ما مرّوا به، يقول: "كنا سعداء جدًا بسقوط داعش، وكنا نخوض معارك معهم حين كانوا يهاجموننا، لكن بإرادة الله كنا نتصدى لهم ودون أي خسائر".
وعن جذور إسم قرية "طيرف"، تحدّث حواس الياس، قائلًا: "قرية طيرف سميت بهذا الإسم نسبةً إلى موقعها الذي يقع على طرف مزار شرف".
بما تشتهر قرية "طيرف"؟
وحول ما تشتهر به قرية "طيرف"، أشار المختار قائلًا: "في وقتٍ ما كان هناك ملك لهذه القرية هو "سفوك باشا"، وبعد تنصيبه من قبل الأتراك في اسطنبول ومجلسه موجود الآن، وكان يحكم حتى قرية أبو مارية والحدود السورية، وذلك بإشراف العثمانيين". وأضاف حواس الياس، قائلًا: "طيرف مشهور بالكثير من الأشياء منها رجالها النشامى الكرماء الشجعان، وأيضًا تشتهر بالتين، ويوجد فيها تقريبًا 40 منزلًا في القرية، كما تساوي 54 بطاقة تموينية".
ماذا عن التحديات التي واجهت أهالي قرية "طيرف"؟
وعن التحديات التي واجهتهم، يقول حواس الياس: "واجهنا الكثير من التحديات ولا نزال نواجهها، مثلًا طريق القرية سيء جدًا، ولا توجد مدرسة في القرية، لذلك نجد القرية شبه فارغة الآن لأنَّ الأهالي اضطروا إلى تركها لعدم تواجد المدرسة، فالخدمات قليلة جدًا، ونحتاج إلى مدرسة ومركز صحي، وإنشاء طريق جيّد للقرية وهو الأهم لأنّه او وجدت طريق جيّدة كنا استطعنا الذهاب إلى المدرسة أو المركز الصحي".
وفي الختام، شدّد حواس على أنَّ الدولة لا تهتمّ وكأنّهم يعيشون في الصحراء، فهو يعطونهم الكثير من الوعود، لكن دون تنفيذ وهي حبر على ورق فقط.