هذه هي السيدة العراقية شتات نوفان منوا، أو الخالة شتاوة كما يعرفها القاصي والداني في بلدات "بعشيقة" و"بحزاني" و"برطلة" بقضاء "الموصل" في محافظة "نينوى" شمال "العراق"، وللخالة شتاوة قصة، بل إنها هي القصة.
ها هي تلجُ الباب الكبير لكنيسة "مارت شموني" للسريان الأرذوكس في بعشيقة حيث تعيش، تذهب لتزور جيرانها ومعارفها وتساهم مع رعاة الكنيسة في زرع الورود وريّها بالماء، وهي تفعل الشيء نفسه في مزارات الإيزيديين.
هذا المشهد الذي يبدو عاديًا جدًا يتضمن تفاصيل مميزة ويحكي قصة إصرار على العيش المشترك، قصةٌ شاهدةٌ على قدرة مكونات العراق على التآلف والتسامح بالرغم من كل الظلمات التي خيمت عليه، زرناها لنسمع منها حكايتها.
وقالت الخالة شتاوة: "لقد رأيتُ طيبة ومحبة وأصالة الناس في بعشيقة، فهم من "خيرة الأوادم"، ويحترمون الجار والغريب.. لقد عشتُ معهم وكبروا أولادي بينهم وإلى حدّ الآن عمري 50 سنة وأنا أعيش بينهم".
وعن علاقتها بالإيزيديين، قالت: "علاقتي جيّدة معهم، فقبل دخول داعش، كنا نعيش بالارتياح كبيرة، حيث كانت المحبة والإتفاق سائدًا، وأيضًا كنا نتشارك الأفراح والمناسبات معًا، والمحبة هي التي كانت تجمعنا".
داعش كان السبب في نزوح الخالة شتاوة
الخالة شتاوة مسلمة من ناحية الكوير بقضاء "المخمور بنينوى"، قدمت قبل خسمين عامًا حين كانت في ربيعها الخامس عشر واستقرت بين أهالي بعشيقة ذات الأغلبية الإيزيدية وخليط متنوع من إثنيات العراق ودياناته، كانت قد ترملت بعد استشهاد زوجها في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، وكعراقية أصيلة، عاشت تنشر المحبة والسلام، حتى هجم داعش على المنطقة، فنزحت مع إخوانها الإيزيديين والمسيحيين وغيرهم.
ترثي الخالة شتاوة ولدها الكبير مشتاق الذي قتله داعش حين هجم على قضاء "الموصل". داعش الذي لم يفرق بين مسلم ومسيحي وإيزيدي، قتل ونكّل وأرهب خلال محاولته لتمزيق النسيج الاجتماعي الجميل في تلك المنطقة، هذه البكاءات تشتهر فيها الخالة شتاوة، فهي تحرص على أداء واجباتها الاجتماعية مع الجميع، تردد البكاءات العراقية الشهيرة في أحزانهم، ثم تمسحُ دمعة قلبها الفقيد، ولا تتردد في العودة من النزوح إلى "بعشيقة".
وعن عودتها إلى العيش في "بعشيقة"، قالت: "لم أفكّر بالاستقرار في مكان غير بعشيقة، فأنا أحب هذه المنطقة، لقد تربّيتُ فيها، فالجيران وأهل بعشيقة رائعيين.. وعندما عدنا إليها كانت الفرحة كبيرة جدًا بيننا وبين المسيحيين والإيزيديين، فكان كلُّ واحدٍ منّا كان يقوم بزيارة جاره ليبارك له على العودة إلى بعشيقة. كما أصبحت بينا عزائم والناس قدمت المساعدة لبعضها البعض".
وعن شعورها بمشاهدة المنطقة مدمّرة قالت الخالة شتاوة: "عندما جئتُ لأول مرّة مع جيراني الإيزيديين رأينا المنطقة كيف أصبحت مخيفة وكأنّها "خرابة"، فقد شعرنا بالهزيمة ومنذ أول ما دخلونا إلى بعشيقة من طرف بردرش إلى حين وصولنا إلى بيوتنا، وأخذنا البكاء على ما حلَّ بها".
لكن أهالي "بعشيقة" و"بحزاني" وما حولهما وكذلك الخالة شتاوة أبَوا الانهزام، فبعد تحرير "بعشيقة" و"بحزاني" من تنظيم داعش في عام 2017، عادت شتات إلى منطقتها بعد أن بقيت سنوات نازحة في مدينة "أربيل".
بدأت شوارع المنطقة وأزقتها تنبض بالحياة من جديد، عادت أصوات أبواق السيارات وفرحَ الأطفال وهم يتسابقون بدراجاتهم في الأزقة.
قرعت الأجراس وكبّرت المساجد وكذلك شمر الإيزيديون عن سواعدهم لإعادة بناء قبة مزار الشيخ بكر في "بحزاني" استعدادًا لزيارات الطوافة، وشمرت الخالة شتاوة ساعديها معهم أيضًا.
وعن اعتذار شتات من الإيزيديين على ما حلّ بهم على يد داعش، قالت: "لقد اعتذرتُ منهم لأنَّ أكثرية الناس قالوا لي أنَّ داعش هم مسلمون، فالمسلم لا يقوم بهذه الأشياء، لا يقتل ولا يسرق، فالمسلم يخاف الله.. وفي القرآن لدينا مكتوب "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا"، فاللذي يقتل الناس لا أعتقد أنّه مسلم".
وعن مشاركتها في مساعدة الإيزيديين في إعادة بناء قسم من مراكزهم الدينية، قالت: "كوني جزءًا من مجتمعهم، وأحبّهم، فقد شعرتُ أنّه ليس هناك أي فرق بين جامع أو بيعة، أو مزار. ونحنُ نعتبر في بعشيقة عائلة واحدة، لا يجود فرق بيننا، لذلك أحببتُ أن أشاركهم في بناء قبة مزار الشيخ بكر".
وأضافت: "إنَّ أي شخص من العراق يفكر بالتعايش السلمي بين الأديان، سينتصر بالتأكيد على داعش، وأتمنى أن تختفي التفرقة بين الناس وأن نعيس بسلام مع بعضنا وأن لا ينتصر علينا أحد".
وأكّدت الخالة شتاوة أنّها لا تخاف من أن ينتقم منها أحد كونها تعيش وسط الإيزيديين، وهي ستبقى إلى جوارهم حتّى مماتها.
يصف أهالي "بعشيقة" و"بحزاني" الخالة شتاوة بحمامة السلام وأيقونته، فهي معروفة بنشرها لقيمه ومشاركتها الدائمة في كل ما يُبقي أواصر التواصل بين أهالي العراق المصغّر أو مدينة الزيتون كما توصف المنطقة.
في مهرجان "ألوان الربيع" الذي شهدته ناحية برطلة كانت الخالة شتاوة حاضرة بكلمة وجهتها للحضور، تقول إنها حضرت لتروّج للسلام ولتُساهم بمناهضة خطابات العنف والكراهية ولتبيّن للناس أنّهم شعب واحد لن يفرّقه لا داعش ولا الحرب، وتجمعهم المشتركات الثقافيةُ والتاريخيةُ والفنُ والحب والسلام، هكذا يعرف الأهالي الخالة شتاوة.