على طريق بلدة "كرسي" الواصل إلى ناحية "سنوني" مركز ناحية الشمال قضاء "سنجار" العراقي، يستوقفك مبنى جديد من ثلاثة طوابق لا يمكن أن تخطئه العين وسط مساحة شاسعة تكتسيها آثار الدمار الذي خلفه داعش خلال السنوات التي سيطر فيها على قرى ومدن محافظة "نينوى"، إنه مجمع "حردان التخصصي الطبي".
أمام هذا المجمع الطبي الذي جاء متنفسًا صحيًا لأهالي المنطقة الأيزيدين، يقف الدكتور الصيدلاني "فرهاد الياس" إيزيدين متطلعًا إلى أحلامه لمنطقته وأهلها، والتي حققها بمعية ابن عمه ميرزا أبو فيصل. لم ينحصر حلم فرهاد بتوفير الخدمات الصحية للأهالي العائدين إلى المنطقة، بل كان يرغب كذلك بتشجيع العودة إلى "سنجار" ومنح العائدين ما يعطيهم الأملَ بإمكانية الاستقرار بمناطقهم من جديد.
وعن هذا المجمع الطبي، قال "فرهاد الياس": "كما نرى جميعًا، حين يأتي أحد إلى المنطقة لفتح مشروع يستفيد منه الناس، ويكون مشروعًا إنسانيًا نافعًا، نفرح جميعًا، وأن تكون أنت تفسكً من يقوم بهذا العمل، فهذا شعور جميل جدًا، أن تكون قادرًا على تقديم منفعة لمنطقتك، وتشرف على الوضع الصحي لأهلكَ عبر إجراء الفحوصات من خلال أجهزة التخطيط بالصدى والموجات فوق الصوتية وصور الأشعة الطبية بإشراف أطباء مختصّين، وأن يصل العلاج في وقت قياسي، وبالشكل الصحيح إلى المريض، ويأخذ مفعوله حتى يستطيع الاستمرار في الحياة اليومية، شعور جميل جدًا".
وتابع: "أتمنى أن يقوم كل من لديه القدرة على فتح مشروع حتى لو لم يكن في مجال الصحة، ألا يتردد في القيام بذلك، ويستطيع تقديم خدمة لمدينة سنجار، ويساهم بدفع النازحين للعودةِ إليها".
نزح فرهاد الياس إيزدين مع عائلته من قريته "حردان" بقضاء "سنجار" الواقع بمحافظة "نينوى" عقب هجوم داعش على القضاء في عام 2014، شهدت قريته "حردان" قتل مئات من شبابها ورجالها، استقر بعائلته الحال في "إقليم كردستان" وبدأ الشاب المولود عام 1992 بمتابعة دراسته في كلية الصيدلة في جامعة "دهوك".
ماذا عن المشروع الذي أعاد الحياة وحسّن من جودة الحياة في "سنجار"؟
سنتان قضاهما بعيدًا عن أرضه، ثم عاد عام 2016 مع عائلته إلى "سنجار"، وفيما كان يتابع دراسة الصيدلة، كان يفكر في عدم توفر أي خدمات صحية في منطقته، فقد سوّى داعش كل المراكز الصحية الموجودة والمتواضعة بالأرض. وفي نفس العام الذي تخرج به، انطلق بناء المجمع الطبي، كان ذلك في بدايات عام 2019، وخلال سنةٍ أو أقل بقليل، اكتمل المشروع الذي سيوفر للمنطقة الكثير في جوانب مختلفة من الحياة.
وفي هذا الصدد، تحدّث فرهاد قائلًا: "قبل أن أفتح هذا المركز الصحي، كنا نازحين في إقليم كردستان، وكنتُ في كلية الصيدلة قبل ثلاث سنوات، ومنذ فترة عدنا إلى سنجار، ورأينا أنَّ الخدمات الصحية ليست بالمستوى المطلوب في المنطقة، ففكرنا بفتح مشروع يستفيد منه الناس، ويكون دافعًا لعودة النازحين".
وأضاف: "كانت الإمكانيات المادية ضعيفة عندما بدأنا بهذا المشروع، ساندتني عائلتي وقلنا حتى إن تأخرنا في افتتاحه، فليس هناك من مشكلة لأنَّ النتائج هي المهمة".
وأردف قائلًا: "تمَّ افتتاح المشروع في الرابع من شهر تموز/ يوليو، وصحيح أنّه لم يكن بالمستوى المطلوب حينها لكننا حاولنا وما نزال نحاول توفير كل الاحتياجات، وإن شاء الله سنستمرّ في منطقتنا.. تعلمون جيدًا المنطقة التي يتواجدون فيها الأيزيديون في العراق، هي سنجار، وإن لم يفكر الإنسان في الناحية المادية فقط، فيجب أن يستفيد أهالي المنطقة كذلك من المشروع فنحنُ أهل، على الأقل يجب أن نستفيد من بعضنا البعض، وألا يكون هدفنا ماديًا، وإنما تقديم الخدمات في مجال الصحة، وتقديم أي خدمة تفتقدها المنطقة، هذا هو سبب اختياري لهذا المكان للعمل فيه".
أخبر فرهاد الياس قائلًا: "قبل مجيء داعش كانت هناك مراكز طبية، لكن الخدمات التي نوفرها نحن الآن لم يكن باستطاعة تلك المراكز توفيرها، في كل فترة هناك نوعية جديدة من المشاريع، فبعد أن رأينا المراكز الطبية في المدن، فكرنا في تنفيذ نفس المشروع لأهلنا".
وأكمل قائلًا: "بعد دحر داعش، لم تكن تتوفر خدمات طبية مثل التي نقدمها الآن، لم تكن هناك مختبرات ولا علاج بالمستوى المطلوب، ولم يكن هناك صيدلاني حتى في الصيدليات في سنجار، فالصيدلاني يشرح أكثر عن تفاصيل العلاج، وإن كان هناك سوء فهم بين الطبيب والمريض، يقوم بمعالجته، وإن كانت هناك تركيبة دوائية فهو يقوم بتحضيرها بطريقةٍ علمية ليستفيد منها المريض".
وأوضح: "بالنسبة لأجهزة التخطيط بالصدى وبالموجات فوق الصوتية، لم تكن الفحوصات سابقًا بالمستوى الطبي المطلوب لأنَّ الأجهزة المتوفرة لم تكن ذات جودة عالية، فالطبيب لا يستطيع التشخيص دون جهاز عالي الجودة. وفي نفس الوقت، إن كنا نملك جهازًا كامل المواصفات في المختبرات يعمل ذاتيًا دون تدخل الإنسان، سيكون هامش الخطأ أقل بكثير وهذا شيء مهم جدًا، وأستطيع القول إنه لا قبل هجوم داعش ولا بعد دحره تمَّ توفير هذا الجهاز. وبالنسبة لجهاز تخطيط القلب، فالأطباء يعلمون أنه مع توفر جهاز ذي دقة وجودة عاليتين، وسيرتاح الطرفان لأنّه على أساس النتائج سيختار الطبيب العلاج الأنسب، ونحن كصيدلانيين أيضًا نختار العلاج وفق الأسس العلمية من شركة جيدة وجودة عالية وسعر مناسب".
شكل هذا المجمع رسالةً مهمّةً في طريقِ إعادةِ الحياةِ والاقتصادِ والخدماتِ وتوفيرِ نوع من جودةِ الحياة التي لم يكن قضاء "سنجار" يعرفها حتى قبل هجوم داعش، وبرز كمثال على ما يمكن أن يقوم به القطاع الخاص من استثمارات ستعود بالنفع على الجميع، فإلى جانب الأرباح التي تحققها المشاريع في منطقة عطشى لكل أنواع الخدمات، فإنها توفر فرص عمل وتنشط الاقتصاد المحلي والاستقرار.
وعن فرص العمل في مجمع "حردان الطبي"، قال فرهاد: "تمكنّا من توفير أكثر من عشرين فرصة عمل، هناك أربع موظفين يعملون باستمرار في الصيدلية. وفي قسم التخطيط بالموجات فوق الصوتية (السونار) يعمل شخصان أو ثلاثة أشخاص، كما يعمل ستة أشخاص في المختبر، وشخصان في قسم الأشعة".
وتابع: "لدينا ثلاثة عشرَ طبيبًا لكل منهم سكرتير، ووفرنا فرصتيّ عمل في قسم الأسنان، فضلًا عن موظفي الحراسة وعمال النظافة، وهذا أيضًا أمر جيد أن نتمكن من خلال المشروع من تقديم خدمة للمواطنين، وكذلك توفير فرص العمل لهم".
وفر هذا المركز الطبي لـ"سنجار" كافة الخدمات الصحية التي كان الأهالي يضطرون للسفر إلى المدن والمناطق البعيدة للحصول عليها، صار لديهم أطباء أكفاء مقيمون وزائرون، وصار لديهم أجهزة متطورة للفحوص الطبية قريبة من منازلهم. وفي مجتمع عانى اقتصاديًا إثر التهجير، خفف وجود هذا المجمع الطبي من التكاليف التي كان يتكبدها المرضى والمراجعون خلال سفرهم إلى الموصل أو دهوك أو غيرها لإجراء المعاينات الطبية والفحوص فيها".
وعن أهمية المركز الطبي لـ"سنجار"، أشار فرهاد: "كنا نفرح دائمًا عندما كنا نرى أي مشروع جديد يستطيع تقديم خدمة في المنطقة، فهذا شيء جميل أن يستطيع المرء عمل شيء ما لمنطقته، ويكون دافعًا لعودة النازحين، خاصّةً بعد الأحداث الأخيرة (هجوم داعش)، وشيء جميل أن يتم توفير فرص العمل من خلال هذه المشاريع، وفيها منفعة مالية، فلا يضطر الأهالي إلى الذهاب إلى المناطق البعيدة، وهذه بدورها خدمة من جميع النواحي، هذا شيء جيد، وأي مشروع مشابه ندعمه، وبمساهمة المرء بمشروعٍ ما سيشعر بالطمأنينة أكثر".
وأكّد الصيدلاني فرهاد الياس، قائلًا: "أنَّ الشيء الأهم بالنسبة لي هو أن نتعاون معًا وندعم أي مشروع نادر في المنطقة وألا نحارب بعضنا بعضًا، ونكمل بعضنا البعض، فالتعاون أساس كل شيء، وكذلك أن نحاول تصحيح أخطاء بعضنا البعض، ونقدّم خدمة أكبر، وقد أخبرنا الجميع أن ينبهوننا إذا ما كان هناك خطأ ما أو أي شيء آخر لنقوم بتصحيحه".
إلى جانب فرص العمل التي وفرها للشباب مستثمرًا في خبراتهم ومواهبهم، أتاح مجمع حردان التخصصي الطبي راحة نفسية واجتماعية وصحية للأهالي، أبرزَها بعض المراجعين الشباب ممن يرون فيه مشروعًا يعيد الحياة لـ"سنجار"، يشفي آلامه وينير درب العائدين.
بدوره تحدّث موظف تكنولوجيا المعلومات في المجمع عن فرصة العمل التي حصل عليها فيه، قائلًا: "قبل افتتاح المجمع قرأتُ على الإنترنت أنّه سوف يتم افتتاح مجمع طبي خاص في سنجار، وخلال تصفحي لصفحتهم، فكّرتُ أنّهم سيحتاجون خريج قسم تكنولوجيا المعلومات، فقلتُ يجب أن أعمل شيئًا حتى أقنع مدير هذا المشروع لكي أعمل فيه، بعد التفكير أنشأتُ تطبيقًا إلكترونيًا يمكن من خلاله للمُراجع الطبي أن يحجز بطاقته. وكان هذا التطبيق مهمًا خاصةً في ظلّ انتشار وباء كورونا، وأتيت وتحدّثت مع مدير المجمع بخصوص التطبيق فأعجبته، فطلبتُ منه أن أعمل في المركز متطوعًا".
وأضاف: "ذهبنا إلى المختبر وكان فيه بعض النواقص مثل برامج للحاسوب وتعاريف الطابعات التي من الممكن أن أقدّمها لهم. واقتنع د. فرهاد بأن أعمل متطوعًا هنا، فعملتُ حولي شهر، كان المركز في بدايته والمراجعات فيه قليلة".