عندما أطرح على طفلتي ذات الأربعة ربيعًا السؤال التالي، ماذا تريدين أن تُصبحي في المستقبل؟ تجيبني بعفوية بريئة "طبيبة بيطرية"، ولماذا طبيبة بيطرية، فتجيبني: لأني أحب مساعدة الحيوانات. كم جميل هذا الحس الإنساني يا طفلتي، وفي سري أقول لنفسي لماذا بيطرية، أريدها أن تُصبح طبيبة، أو مهندسة، أو ربما معلمة فهذه المهنة تسمح لها أكثر أن توازن بين عملها وواجباتها كزوجة وأم مستقبلاً.
أتدارك نفسي بسرعةً موبخًا لها، ما هذه الأفكار السلبية، ولماذا وكيف تتبادر إلى ذهني، إياك وأن تسمح لمثل هذه الأفكار أن تتسلل إلى ابنتك، دعها تدرس وتعمل ما تحب، ولتختَر بنفسها مستقبلها المهني، واحرص على إعطائها كامل الحرية لتبني شخصيتها التي تحب وتطمح لها، المهم أن تكون ناجحة في حياتها.
وأتساءل، هل سأحاول فيما بعد التأثير عليها بما يتعلق بمستقبلها الدراسي والمهني فقط أم أن الأمر سيتعدى مختلف جوانب حياتها الشخصية وقراراتها الخاصة، وربما طريقة تفكيرها أيضًا؟ وهل فرض والدي علينا بقصد أو غير قصد مفاهيمه وقناعاته الشخصية؟ هل استطعنا نحن تحقيق ذاتنا واخترنا شخصيتنا التي نحب ونرغب؟ أم كان للبيئة التي ترعرعنا فيها تأثيرها وسطوتها التي فرضت علينا ما تعتقد أنه الأنسب والأصح لنا؟ هل البيئة الحاضنة للطفل في مجتمعاتنا عامةً هي بيئة خلاقة وداعمة لهُ، وتساعده على اكتشاف مواهبه وقدراته وطموحه؟ أم أنها بيئة تقليدية وعفوية تفتقر عمومًا إلى منهجية التفكير البناء والهادف؟ وهل تعاني البيئة المحيطة بأطفالنا من هذه الإشكالية فقط، أم أن فيها الكثير من الإشكاليات المعقدة والمتداخلة فيما بينها.
لقد نشأنا ونُنشىء أبناءنا في بيئة ورثنا فيها أفكارها ومفاهيمها بالفطرة عن أسلافنا، بيئات تتكرر فيها أفكار الآباء والأجداد، وتفرض الرقابة الذاتية على كل من يسعى لتغييرها، فبتنا حتى نخشى من تجديد أنفسنا.
نعم المسألة ليست بهذه البساطة، بل هو موضوع معقد جدًا، ولا يمكن اختزاله وطرحه كأي ظاهرة مجتمعية، فهناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية أيضًا تحدد ملامح وسمات البيئة التي يتربى وينشأ فيها كل طفل، ويكون لها الدور الأكبر في خلق وتشكيل وعيه الفردي والجمعي، والذي ينعكس بصورة أفكار ومفاهيم لا تقبل التغير أو التجديد بسهولة.
هل للمؤسسات التربوية والتعليمة دور في إعادة صياغة وتشكيل أفكارنا ومفاهيمنا، وهل تتمتع هذه المؤسسات بالاستقلالية والحرية الفكرية، أم هي أيضًا جزء لا يتجزأ من البيئة الحاضنة لأفكارنا ومفاهيمنا العامة. لست هنا بصدد تقييم المؤسسات التعليمية ودورها في صياغة الوعي المجتمعي، ولا بصدد تحميل المسؤولية للقائمين على العملية التعليمية سواهم دون غيرهم. بل أود أن أنوه لمدى أهمية إعطاء أبنائنا هامش من الحرية الفكرية والإصغاء لأفكارهم وآرائهم حتى وإن خالفت قناعاتنا ومفاهيمنا التي طالما اعتقدنا بصحتها.
ادعموا أطفالكم ليحققوا ذاتهم وليكونوا هم كما يريدون ويحبون، لا تكرروا أنفسكم في أبنائكم، بل اسعوا جاهدين لتوسعوا آفاقهم ورؤاهم ليتجاوزوا بتفكيرهم حدود الواقع المحيط بهم. ساعدوهم لتحجزوا لهم مكانًا في المستقبل وفضاءاته التي تتسع وتتنوع يومًا بعد يوم.
من المهم جدًا أن نرشد أطفالنا لبناء شخصيتهم التي تحاكي مواهبهم وشغفهم، وفي ذات الوقت تلبي متطلبات وعالم المستقبل الذي بات فيه الذكاء الصناعي والرقمنة الفكرية أبجديته وبوابته التي لن تفتح إلا لمن يمتلك شيفرتها الرقمية.
فلنفكر خارج الصندوق ولننظر إلى المستقبل الأبعد ولنبحث عن المعلومات التي تساعد أبنائنا على امتلاك أفكار ومفاهيم وقيم إنسان المستقبل لا إنسان الحاضر، فالحاضر بات الآن هو الماضي في ظل تسارع تطورات العلم وأدواته وتقنياته التي بات من الصعب مواكبتها ومنافسة روادها.
إن الأفكار والمفاهيم والمبادئ التي ينبغي أن نُسلح ونقوي بها أبناءنا هي تلك التي ستكون لغة وأخلاق عالم ما بعد الغد.
بقلم: إيهاب يازجي