ظهرت قبل أكثر من 3 آلاف عام النقود كمعادل قيمة للسلع والمقايضات، ومنذ لحظتها والإنسان مشغول بها إلى أقصى درجة، وتباينت أشكالها وأحجامها ومواد تصنيعها ما بين الذهب والفضة والبرونز والنحاس وغيرها من المعادن، حتى كانت الأوراق النقدية المتداولة للآن في العالم كله، ولكن مع القفزة التكنولوجية والرقمية التي يشهدها عالمنا الآن، بات التفكير باتجاه استخدام عملات رقمية يشغل تفكير بعض البنوك المركزية الكُبرى، وهو ما يُعد مؤشرًا نحو تحول واسع في قطاع المعاملات المالية والأسواق واقتصاد العالم بشكل عام.
كان المركز الأوربي، قد أطلق ما يُسمميه عملية اختبار لعملة رقمية متطورة هي "اليورو الرقمي"، وأنه سينتظر نتائج ذلك الاختبار حتى منتصف العام 2021، وكان المركز السويدي بالفعل أطلق بدوره عملة رقمية جديدة هي "الكورنا الرقمية" وأنه في فبراير 2021 سيتحدد مصيرها. وفي السياق ذاته، أصدرت وقبل أيام، مجموعة من 7 بنوك مركزية كبرى يتقدمها البنك المركزي الفيدرالي الأمريكي، إطارًا عامًا يرسم فيه أهم الخصائص الواجب أن تتمتع بها العملة الرقمية، وهو ما سبقت إليه الصين، إذ كانت قد بدأت تجارب لاستخدام "الإيوان الرقمي" في عدة مدن صينية في مطلع هذا العام، كما أنها واصلت التجربة بإصدارها 10 ملايين (إيوان رقمي) قبل أيام، تمَّ إصدارها بشكل عشوائي لاختبار نظام الدفع بالعملة الرقمية الجديدة، وذلك في محاولة جادة من الحكومة الصينية تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في تعاملاتها الاقتصادية.
يُذكر أن انتشار وباء كورونا المستجد وما استلزمه من إغلاقات اقتصادية واسعة في العالم كله، اضطر الكثيرون للتعامل الكبير مع التجارة الإلكترونية، والت قفزت قفزة هائلة قدرها مراقبون بنسبة 209% منذ أبريل/ نيسان الماضي، وهو ما يدفع توجه البنوك المركزية نحو تلك العملات الرقمية، كما يعززه اتجاهين؛ الأول يجيء تماهيًا مع قفزة التكنولوجيا والطلب المتزايد للمستهلكين على نظام المدفوعات الرقمي الأكثر ملائمة لحياتهم الرقمية كاستخدامهم الدفع الإلكتروني خلال أنظمة هواتفهم الذكية، وهو ما لوحظ في بريطانيا التي تجاوز حجم المدفوعات عبر بطاقة الدفع 1%، وكذلك زيادة النسبة في السويد التي يتراجع فيها استخدام "الكاش"، وفي أمريكا اللاتينة لوحظ قيام أكثر من 13 مليون شخص خلال الربع الأول من العام باستخدام بطاقاتهم الائتمانية للتسوق الإلكتروني لأول مرة، كما أعلنت شركة المدفوعات "باي بال" أن هناك أكثر من 7.4 مليون مستخدم فعلوا الأمر نفسه خلال نفس الفترة.
ويجيء الاتجاه الآخر الدافع للبنوك المركزية إلى استخدام العملات الإلكترونية، هو محاولتها مزاحمة العملات المشفرة وسحب البساط من تحت قدميها، كونها عملات غير مركزية تدعم التحويلات المجهولة دون الحاجة إلى وسيط أو بنك مركزي، وهو ما يهدد بالأساس الدور الذي تلعبه البنوك المركزيه والهيئات المالية، كما أن إعلان فيسبوك عن خطته لإطلاق عملته المشفرة "ليبرا" دفعت بالبنوك المركزية نحو هذا التفكير في العملات الرقمية، وكانت خطة فيسبوك الذي يتجاوز مستخدميه 2.7 مليار مستخدم، بمثابة رسالة تستحق التفكير في مفادها، والذي يقول بإنه إن لم تفكر البنوك المركزية في أمر العملات الرقمية فإن جهات أخرى ستفكر وستفعل ذلك.