يتخيل البعض أن العمارة تخصص يقتصر على اللوحة والتصميم والرسم وتتطور بالتنفيذ إلى المعرفة بالمواد المستخدمة كالأسمنت والرمل والحديد والخشب وغيرها من مواد البناء... وقد يتخيل البعض أن المهندس المعماري كادر مهني يختص بما ذكر أعلاه وكفى، إلا أن هذا التخيل يعتبر تسطيح للأمور وبعد عن عمق المسألة ومجافاة للوعي المعماري الذي نطمح ونسعى الى وجوده بين العامة.
إن المعماري بعميق فكره ومعرفته بدواخل الأمور في مجتمعه ودراسته المتأنية للتاريخ وبحثه الدائم في الطبيعة وسعيه الدؤوب نحو الابداع والتطوير يعتبر أحد الأركان الأساسية التي ترتكز عليها مسألة البناء بشموليتها لدى الأمة .. بناء الفرد.. بناء الأسرة.. بناء المجتمع والدولة.. وتطويرهم دائما نحو الأمام والأفضل.
إذا كان المعنى المباشر لعملية البناء هو إقامة مبنى أو منشأة ما، فإن هذا يعتبر فعالية إنسانية ينتج عنها خلق شكل يعترض نظر العين في البيئة ، وهذا الخلق مسؤولية عظيمة يجب أن تتلاءم وتتناغم مع العديد من الأمور مثل:
- أن لا يكون هذا الاعتراض البصري متناقض مع البيئة المحيطة..على العكس يتناغم ويتوافق معها
- أن يتصف بالجمال " وإن كان الجمال صفة نسبية " .
- أن يؤدي الوظيفة التي أنشئ من أجلها بشكل سلس ويطور من أداء مستخدمي المبنى لمهامهم ويؤثر فيهم بشكل إيجابي ينعكس على طريقة استخدامهم للمبنى فيحافظون عليه كي يحافظ عليهم وتكون العلاقة بينهما تبادلية التأثير والتأثر.
إننا إذا نظرنا إلى هذه الأمور نجد أن تحقيقها يؤدي إلى بناء فرد اجتماعي سويّ الشخصية واسع الادراك جماعي التفكير وإيجابي المشاركة ناكرٍ للذات يذوب في المجموع ويعرف أن مصلحته الفردية لا تأتي إلا من خلال مصلحة الجماعة...وبالتأكيد .. بناء فرد بهذه الطريقة يؤدي بالضرورة إلى بناء أسرة تعتبر الأساس الصالح لبناء مجتمع وأمة على أرض وضمن بيئة سوية تتوافق مع الطبيعة التي حبانا بها الله عز وجل لنعيشها ونسترشد بحكمة وجودها ونهتدي بمعرفة أدق تفاصيلها.
من هنا جاء القول بأهمية المعماري في المجتمع البشري .. أهمية نابعة من دوره الأساس في تشكيل وصياغة نسيج المجتمع عن طريق المعرفة والوعي العميقين بالعلاقة بين البناء المادي المباشر للمباني والبناء المعنوي المرتبط والمتأثر به والمؤثر فيه.
إن بناء مدرسة مثلاً يجب أن يوفر بالاضافة الى وظيفتها المباشرة كأداة لتحقيق العملية التعليمية، أموراً معنوية أخرى تخلق علاقة ودّ إيجابية بين التلاميذ والمدرسة وبين هيئة التدريس والمدرسة وبين التلاميذ وهيئة التدريس ، وللوصول إلى هذا لابد من تداخل من المعماري مع كافة الأطراف ومعرفة ما خلف أحاديثهم المباشرة ومحاولة الغور في ما قد لا يستطيعون التعبير عنه لتحقيق أفضل نسبة من الاستفادة من الوقت الذي يقضونه بين جدران المدرسة ومختلف مسطحاتها من فصول ومختبرات وساحات وقاعات ... وغيرها
وينطبق الأمر أيضاً على المنزل الخاص حتى وان اختلفت الوظيفة التي يؤديها ، وكذلك الحال على المبنى الاداري وأيضا المستشفى والسوق وغيرها من نوعيات الوظائف المختلفة التي تؤديها المباني التي يتشكل منها المجتمع العمراني المسمى بالمدينة بشوارعها وحدائقها وساحاتها في الأحياء والمجاورات السكنية وقطاعات النشاط الانساني المختلفة والذي يخلق بين جنباتها كتلة بشرية تسمى مجتمع يجب أن يتمتع بالتحالف والتعاضد والتكامل ويخلو من الأمراض الاجتماعية الناجمة عن خلل العلاقات الذي قد يتكون كنتيجة لكره المكان .
قد لا يمتلك مستخدم المبنى القدرة على أو الإمكانية للتعبير بشكل واضح ومباشر عما يريد في المبنى وعلاقات الحركة المختلفة للنشاطات التي يتم ممارستها بداخله .. وهنا يأتي دور المعماري الذي تسلّح بدراسة التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والمناخ والبيئة وعلم النفس وكافة الدراسات المتعلقة بالقدرة على تحقيق الوظيفة المرجوة إضافة إلى دراسة الهندسة .. يأتي دور المعماري ليقوم بتشكيل وصياغة التصميمات المبدئية ومناقشتها بعد عرضها بأبسط الوسائل التي تُمكن المستخدم من فهمها ومن ثم اتخاذ القرار والقبول بها والموافقة بالتالي على إعداد التفاصيل التنفيذية والرسومات الهندسية المتعلقة بالخدمات المختلفة "تمديدات الكهرباء وتمديدات المياه والصرف الصحي وتكييف الهواء.......إلخ"
هذا مع ضرورة ملاحظة أن المعماري يبقى المسؤول أيضاً عن معايير الجمال والمواءمة مع المحيط دونما مغالاة أو شطحات فنية قد لا تقبلها الامكانيات الاقتصادية أو اختلافات الأذواق....
كنت يوما أعمل في مشروع رائد للاسكان في إحدى البلاد الخليجية وكانت الدولة قد خططت بشكل مسبق قسائم الأراضي المزمع انشاء المساكن عليها ونفّذت كافة خدمات البنية التحتية Infrastructure services من طرق وشبكات كهرباء وماء وصرف صحي واتصالات بالاضافة الى التنسيقات الحدائقية الخارجية والمداخل الخاصة بالقسائم وعلاقة كل مدخل بنقاط التوصيل House connection مع كل خدمة ووضعت كافة التشريعات والشروط الخاصة بالتصميم من كثافة بنائية ومساحة مغطاة وارتفاعات وارتدادات وحددت كذلك الحدود القصوى للأحمال الكهربية ومواصفات العزل الحراري على الأسقف والجدران وكذلك الألوان الخارجية وغيرها من تشريعات المباني ووفرت كذلك مجموعة من التصميمات الخاصة بالفيللات المقترح بناؤها وأعطت للمنتفعين حرية الاختيار بين تلك التصميمات أو التعاقد مع مكتب استشاري معتمد لاعداد التصميم الخاص ضمن اطار التشريعات المذكورة.
وكنت كمهندس معماري أتولى إعداد الرسومات الخاصة بموقع المسكن Site Plan في حال اختيار احد التصميمات المتوفرة ، و في حال ذهاب المنتفع الى التصميم الخاص أقوم بالمراجعة من أجل التيقن من التزامه بالتشريعات المعتمدة للمباني ، وجاءني يوماً أحد زملاء المدرسة وكان قد التحق بكلية الشرطة وأصبح ضابطاً في قلم المرور ولديه قسيمة أرض ضمن المشروع وجاء للاستفسار عن الاجراءات والاختيارات ، أعطيته نسخاً من التصميمات المتوفرة وشرحت له أن بإمكانه القيام بتصميم خاص إذا أراد .. أخَذَ نسخ التصميمات قائلاً أنه سيفكر ويتشاور ويعود مرة أخرى.
بعد أيام وكنت في مكتبي في موقع المشروع وإذا بزميل المدرسة ضابط شرطة المرور أمامي وعلى وجهه علامات من الحيرة والحرج والرجاء .. باشمهندس ممكن تيجي ويّاي لغاية السيارة.. خير شو في.. اتفضل اتفضل .. زوجتي معاي وتريد مناقشة بعض التفاصيل بشأن التصميم المعماري.. كان يتحدث وهو يجول بنظره في المكان .. هل ممكن السيدات يدخلوا هني؟
رغم بدايات النهضة الحضارية المصاحبة للاكتشافات النفطية والوفرة المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط .. إلا أن المجتمع الخليجي في ذلك الوقت ما زال محتفظا بعاداته وتقاليده المحافظة وبالرغم من إنشاء المدارس والجامعات للفتيات والتحاق بعض الخريجات منهن بالتدريس إلا أن التعامل مع السيدات ما زالت تشوبه الكثير من المحاذير والحساسيات وكنت مقدراً لهذا بشكل دقيق بحكم وجودي في البلاد مذ كنت صغيراً وتعرفي من خلال علاقات الجيرة وعلاقات والدتي بنساء الفريج "الحي السكني" على الكثير من تفاصيل تلك العادات والتقاليد .. فكرت لوهلة ثم قلت له انتظر لحظة وذهبت إلى غرفة من غرف مكتب الموقع كانت معدّة لاستخدام مساعد مدير المشروع ولها باب مباشر إلى خارج المكتب لكن هذا المساعد نادراً أن يأتي وبالفعل لم يكن أحد في الغرفة وذهبت لصديقي كي يأتي بزوجته من الباب الخارجي المباشر وأبلغت سكرتير المكتب وأوصيته أن يرسل فراش المكتب بعد قليل.
جاء الرجل ومعه زوجته تلبس عباءتها السوداء التقليدية .. كان في الغرفة صالون جلوس يتوسطه طاولة متوسطة المسطح والارتفاع ، جلست السيدة على الكنبة الأكبر بمحاذاة الطاولة وجلست أنا وزوجها متقابلين كل على أحد الكراسي الفردية.. وضعت هي لفة من الرسومات كانت بيدها على الطاولة..
بعد تبادل التحايا الخجولة والسؤال عن التصميمات التي كنت قد أعطيته إياها تحدثت هي قائلة نحن نود أن نستخدم تصميمنا الخاص ولكن دعنا نناقش أولا الشروط التي يجب الالتزام بها ومدى امكانية تجاوزها خاصة في ما يخص المساحة المسموحة ، لاحظتُ أنها بكامل أناقتها وعندما جلست انحسرت عباءتها عن رأسها ولم تعتن بإعادتها على شعرها المصفف بعناية .. واسترسلت في الحديث تحاول أن تصف لي متطلباتها والمساحات المختلفة التي تريدها وعلاقات هذه المساحات ببعضها البعض وكيفية الحركة بينها، وأنا أرى سقوط العباءة بالكامل عن أكتافها ولم تعتن أبدا برفعها لتصبح جالسة بكامل ألوانها التي تنم عن اختيار متقن بين التوافق والتدرج..
كنت أستمع لكل متطلباتها وبتركيز شديد لكنني والحق يقال كنت أيضا أفكر.. أي دور للمعماري في فهم هذه المتطلبات وربطها بما يلاحظه فيما بين السطور وما هي الحالة النفسية والقناعات الفكرية التي يجب فهمها للشخص من أجل ترجمة متطلباته على ورق الخرائط والرسومات.. بالرغم من أن ما يقال لم يكن صعب الاستيعاب لكن ما يُرى هو الذي يحتاج إلى فهم وهو ما كنت أقول به حول دور المعماري كي ينجح في تحقيق المبنى على الأرض ليكون آلة للعيش فيه كما قال المعماري السويسري الفرنسي لوكوربوازييه في النصف الأول من القرن العشرين.
هذه الأسرة أعني صديقي الضابط وزوجته أوصلت لي دون أن تقول بشكل مباشر أنها منفتحة على العالم الحديث وليست متمسكة بالعادات والتقاليد بشأن الفصل بين النساء والرجال المتعارف عليه وهو ما يجب أن يظهر جليا في تصميم المسقط الأفقي للمنزل الذي يعيشون فيه.. بالتأكيد لن يكون هذا التفكير على إطلاقه وإنما بدرجة أو بأخرى مختلف عن ما درجنا على عمله لتصميم المسكن في هذه المنطقة.. ويمكنني القول هنا أنني وبالفعل نجحت عبر جلسات حوار متكررة في إعداد تصميم ابتدائي ضمن الحد الأقصى للمساحات المسموح بها وكذلك الارتفاعات وغيرها من التشريعات وأخذوه إلى مكتب استشاري لإعداد الرسومات التفصيلية اللازمة للتنفيذ.